الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: غذاء الألباب لشرح منظومة الآداب **
(التَّاسِعُ): فِي أَشْيَاءَ تُبَاحُ فِي الْمَسْجِدِ غَيْرِ مَا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ: يُبَاحُ فِيهِ الْوُضُوءُ وَالْغُسْلُ بِلَا ضَرَرٍ إلَّا أَنْ يَحْصُلَ مَعَهُ بُصَاقٌ أَوْ مُخَاطٌ . وَيُبَاحُ غَلْقُ أَبْوَابِهِ فِي غَيْرِ أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ لِئَلَّا يَدْخُلَهُ مَنْ يُكْرَهُ دُخُولُهُ إلَيْهِ . وَيُبَاحُ الْأَكْلُ فِيهِ وَالِاسْتِلْقَاءُ فِيهِ لِمَنْ لَهُ سَرَاوِيلُ . فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ عَنْ عَمِّهِ أَنَّهُ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُسْتَلْقِيًا فِي الْمَسْجِدِ وَاضِعًا إحْدَى رِجْلَيْهِ عَلَى الْأُخْرَى قَالَ الْمَرُّوذِيُّ: سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الرَّجُلُ يَسْتَلْقِي وَيَضَعُ إحْدَى رِجْلَيْهِ عَلَى الْأُخْرَى؟ قَالَ: لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ قَدْ رُوِيَ . قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: لَا بَأْسَ بِهِ إلَّا أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ سَرَاوِيلُ . وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا نَأْكُلُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَسْجِدِ الْخُبْزَ وَاللَّحْمَ . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ . قَالَ فِي الْإِقْنَاعِ: وَيُبَاحُ اتِّخَاذُ الْمِحْرَابِ فِي الْمَسْجِدِ وَفِي الْمَنْزِلِ . قَالَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى: قَالَ بَعْضُهُمْ: وَيُبَاحُ اتِّخَاذُ الْمِحْرَابِ . نَصَّ عَلَيْهِ . وَقَدَّمَ فِي الْآدَابِ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ اتِّخَاذُ الْمِحْرَابِ فِيهِ وَفِي الْمَنْزِلِ . قَالَ الشَّيْخُ وَجِيهُ الدِّينِ: بِنَاءُ الْمَسَاجِدِ وَالْجَامِعِ مِنْ فَرَوْضِ الْكِفَايَاتِ . قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: يَنْبَغِي اتِّخَاذُ الْمِحْرَابِ فِيهِ لِيَسْتَدِلَّ بِهِ الْجَاهِلُ , وَقَطَعَ بِهِ ابْنُ الْجَوْزِيِّ , وَأَوْمَأَ إلَيْهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رضي الله عنه وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
وَيَحْسُنُ الِاسْتِرْجَاعُ فِي قَطْعِ شِسْعِهِ وَتَخْصِيصِ حَافٍ بِالطَّرِيقِ الْمُمَهَّدِ (وَيَحْسُنُ) أَيْ يُشْرَعُ وَيُسَنُّ (الِاسْتِرْجَاعُ) أَيْ قَوْلُ: إنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ وَيُقْرَأُ الِاسْتِرْجَاعُ فِي عِبَارَةِ النَّظْمِ بِالنَّقْلِ لِلْوَزْنِ (فِي قَطْعِ شِسْعِهِ) أَيْ فِي قَطْعِ شِسْعِ نَعْلِهِ , وَهُوَ بِكَسْرِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ أَحَدُ سُيُورِ النَّعْلِ , وَهُوَ الَّذِي يَدْخُلُ بَيْنَ الْأُصْبُعَيْنِ وَيَدْخُلُ طَرَفُهُ فِي الثَّقْبِ الَّذِي فِي طَرَفِ النَّعْلِ الْمَشْدُودِ فِي الزِّمَامِ , وَهُوَ السَّيْرُ الَّذِي يُعْقَدُ فِيهِ الشِّسْعُ , وَالْجَمْعُ شُسُوعٌ مِثْلُ حِمْلٍ وَحُمُولٍ . رَوَى أَبُو مُحَمَّدٍ الْخَلَّالُ رحمه الله رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ " إذَا انْقَطَعَ شِسْعُ أَحَدِكُمْ فَلْيَسْتَرْجِعْ فَإِنَّهَا مُصِيبَةٌ " . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنهما أَنَّهُمَا سَمِعَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ " مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْ وَصَبٍ وَلَا نَصَبٍ وَلَا سَقَمٍ وَلَا حَزَنٍ حَتَّى الْهَمُّ يَهُمُّهُ إلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهِ مِنْ سَيِّئَاتِهِ " وَالْوَصَبُ وَالنَّصَبُ التَّعَبُ . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنه ا قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " مَا مِنْ مُصِيبَةٍ تُصِيبُ الْمُسْلِمَ إلَّا كَفَّرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهَا عَنْهُ حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا " . قَالَ الشَّيْخُ شَمْسُ الدِّينِ الْمِينَحِيُّ فِي كِتَابِهِ (تَسْلِيَةِ أَهْلِ الْمَصَائِبِ) , وَهُوَ مِنْ أَئِمَّةِ الْمَذْهَبِ: قَدْ جَعَلَ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ كَلِمَاتِ الِاسْتِرْجَاعِ وَهِيَ قَوْلُ الْمُصَابِ إنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ مَلْجًَا وَمَلَاذًا لِذَوِي الْمَصَائِبِ . وَعِصْمَةً لِلْمُمْتَحَنِينَ مِنْ الشَّيْطَانِ , لِئَلَّا يَتَسَلَّطَ عَلَى الْمُصَابِ فَيُوَسْوِسَ لَهُ بِالْأَفْكَارِ الرَّدِيئَةِ , فَيَهِيجَ مَا سَكَنَ وَيَظْهَرَ مَا كَمَنَ , فَإِذَا لَجَأَ إلَى هَذِهِ الْكَلِمَاتِ الْجَامِعَاتِ لِمَعَانِي الْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ فَقَدْ اعْتَصَمَ بِهَا مِنْ وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ , فَإِنَّ قَوْلَهُ إنَّا لِلَّهِ تَوْحِيدٌ وَإِقْرَارٌ بِالْعُبُودِيَّةِ وَالْمُلْكِ , وَقَوْلَهُ: وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ إقْرَارٌ بِأَنَّ اللَّهَ يُهْلِكُنَا ثُمَّ يَبْعَثُنَا , فَهُوَ إيمَانٌ بِالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ , وَهُوَ إيمَانٌ أَيْضًا بِأَنَّ لَهُ الْحُكْمَ فِي الْأُولَى وَلَهُ الْمَرْجِعُ فِي الْأُخْرَى , فَهُوَ مِنْ الْيَقِينِ أَنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ فَلَا مَلْجَأَ مِنْهُ إلَّا إلَيْهِ . ثُمَّ قَالَ: لِيَعْلَمَ الْعَبْدُ وَيَتَحَقَّقَ أَنَّ نَفْسَهُ وَأَهْلَهُ وَمَالَهُ وَوَلَدَهُ مِلْكٌ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ حَقِيقَةً , وَقَدْ جَعَلَهُ اللَّهُ عِنْدَ الْعَبْدِ عَارِيَةً فَإِذَا أَخَذَهُ مِنْهُ فَهُوَ كَالْمُعِيرِ يَأْخُذُ عَارِيَتَهُ مِنْ الْمُسْتَعِيرِ . وَأَيْضًا فَإِنَّهُ مَحْفُوفٌ بِعَدِمَيْنِ عَدَمٍ قَبْلَهُ وَعَدَمٍ بَعْدَهُ . وَمِلْكُ الْعَبْدِ لَهُ مُتْعَةٌ مُعَارَةٌ فِي زَمَنٍ يَسِيرٍ . وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لَيْسَ هُوَ الَّذِي أَوْجَدَهُ عَنْ عَدَمٍ حَتَّى يَكُونَ مَالَهُ حَقِيقَةً , وَلَا هُوَ الَّذِي يَحْفَظُهُ مِنْ الْآفَاتِ بَعْدَ وُجُودِهِ , وَلَا يَبْقَى عَلَيْهِ وُجُودُهُ , فَلَيْسَ لَهُ فِيهِ تَأْثِيرٌ , وَلَا مِلْكٌ حَقِيقِيٌّ . وَأَيْضًا فَإِنَّهُ مُتَصَرِّفٌ فِيهِ بِالْأَمْرِ تَصَرُّفَ الْعَبْدِ الْمَأْمُورِ الْمَنْهِيِّ لَا تَصَرُّفَ الْمُلَّاكِ , وَلِهَذَا لَا يُبَاحُ لَهُ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ فِيهِ إلَّا مَا وَافَقَ أَمْرَ مَالِكِهِ الْحَقِيقِيِّ , ثُمَّ إنَّ مَصِيرَ الْعَبْدِ وَمَرْجِعَهُ إلَى اللَّهِ مَوْلَاهُ الْحَقِّ , وَلَا بُدَّ أَنْ يَخْلُفَ الدُّنْيَا وَرَاءَ ظَهْرِهِ وَيَأْتِيَ رَبَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا كَمَا خَلَقَهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ بِلَا أَهْلٍ , وَلَا مَالٍ وَلَا عَشِيرَةٍ , وَلَكِنْ يَأْتِيهِ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ . فَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ بِدَايَةَ الْعَبْدِ , وَمَا خَوَّلَهُ فِيهِ وَنِهَايَتُهُ وَحَالُهُ فِيهِ , فَكَيْفَ يَفْرَحُ الْعَبْدُ بِوَلَدٍ أَوْ مَالٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَتَاعِ الدُّنْيَا , أَمْ كَيْفَ يَأْسَى عَلَى مَفْقُودٍ؟ . فَفِكْرَةُ الْعَبْدِ فِي بِدَايَتِهِ وَنِهَايَتِهِ مِنْ أَعْظَمِ عِلَاجِ الْمَصَائِبِ . وَمِنْ عِلَاجِهِ أَنْ يَعْلَمَ عِلْمَ الْيَقِينِ أَنَّ مَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ , وَمَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ . قَالَ تَعَالَى (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأهَا إنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاَللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ) . وَمَنْ تَأَمَّلَ هَذِهِ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ وَجَدَ فِيهَا شِفَاءً وَدَوَاءً لِكُلِّ مُصِيبَةٍ . انْتَهَى .
(بِشَارَةٌ عَظِيمَةٌ). وَرَدَ عَنْ النَّبِيِّ الْمُخْتَارِ , صلى الله عليه وسلم مَا تَعَاقَبَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ , أَنَّ مَنْ أُصِيبَ بِمُصِيبَةٍ فَذَكَرَهَا وَلَوْ بَعْدَ مُدَّةٍ طَوِيلَةٍ فَجَدَّدَ لَهَا اسْتِرْجَاعًا وَصَبْرًا جَدَّدَ اللَّهُ لَهُ ثَوَابًا وَأَجْرًا . فَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي الْمُسْنَدِ عَنْ سَيِّدِنَا الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ " مَا مِنْ مُسْلِمٍ وَلَا مُسْلِمَةٍ يُصَابُ بِمُصِيبَةٍ فَيَذْكُرُهَا , وَإِنْ طَالَ عَهْدُهَا - وَفِي لَفْظٍ , وَإِنْ قَدُمَ عَهْدُهَا - فَيُحْدِثُ لِذَلِكَ اسْتِرْجَاعًا إلَّا جَدَّدَ اللَّهُ لَهُ عِنْدَ ذَلِكَ فَأَعْطَاهُ مِثْلَ أَجْرِهَا يَوْمَ أُصِيبَ بِهَا " . وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ فَاطِمَةَ بِنْتِ الْحُسَيْنِ أَيْضًا وَلَفْظُهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ " مَنْ أُصِيبَ بِمُصِيبَةٍ فَذَكَرَ مُصِيبَتَهُ فَأَحْدَثَ اسْتِرْجَاعًا وَإِنْ تَقَادَمَ عَهْدُهَا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ مِنْ الْأَجْرِ مِثْلَهُ يَوْمَ أُصِيبَ " قَالَ الشَّمْسُ الْمِينَحِيُّ: فِي إسْنَادِهِ مَقَالٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
(تَنْبِيهَانِ: الْأَوَّلُ) الْمَصَائِبُ تَتَفَاوَتُ , فَأَعْظَمُهَا الْمُصِيبَةُ فِي الدِّينِ , نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ ذَلِكَ , فَإِنَّهَا أَعْظَمُ مِنْ كُلِّ مُصِيبَةٍ يُصَابُ بِهَا الْإِنْسَانُ . وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم " الْمَسْلُوبُ مَنْ سُلِبَ دِينُهُ " فَإِذَا رَأَيْت إنْسَانًا لَا يُبَالِي بِمَا أَصَابَهُ فِي دِينِهِ مِنْ ارْتِكَابِ الذُّنُوبِ وَالْخَطَايَا وَفَوَاتِ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ وَأَوْقَاتِ الطَّاعَاتِ فَاعْلَمْ أَنَّهُ مَيِّتٌ لَا يُحِسُّ بِأَلَمِ الْمُصِيبَةِ , فَإِنَّك لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى . ثُمَّ بَعْدَ الْمُصِيبَةِ فِي الدِّينِ الْمُصِيبَةُ فِي النَّفْسِ , ثُمَّ فِي الْأَهْلِ وَهِيَ مُقَارِبَةٌ الْمُصِيبَةَ فِي النَّفْسِ , ثُمَّ الْمُصِيبَةُ فِي الْمَالِ , وَهَذِهِ كَاَلَّتِي قَبْلَهَا تَتَفَاوَتُ بِحَسَبِ فَخَامَةِ الْمُصَابِ فِيهِ وَحَقَارَتِهِ , فَأَعْظَمُهَا أَنْفَسُهَا إلَى أَنْ تَصِلَ إلَى شِسْعِ النَّعْلِ وَالشَّوْكَةِ فَإِنَّهُمَا فِي غَايَةِ الْحَقَارَةِ , فَإِنَّ حَرَّ الْمُصِيبَةِ تَنَالُ مِنْ الْقَلْبِ بِقَدْرِ مَا فَقَدَ وَتَأَلَّمَ , وَشِسْعُ النَّعْلِ فِي غَايَةِ الْخِسَّةِ . فَنَبَّهَ الْمُصْطَفَى عَلَى أَعْلَى الْمَصَائِبِ بِقَوْلِهِ " الْمَسْلُوبُ مَنْ سُلِبَ دِينُهُ " .
عليه الصلاة والسلام وَيَقْرُبُ مِنْ هَذَا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم " أَيُّهَا النَّاسُ أَيُّمَا أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ أَوْ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أُصِيبَ بِمُصِيبَةٍ فَلْيَتَعَزَّ بِمُصِيبَتِهِ بِي عَنْ الْمُصِيبَةِ الَّتِي تُصِيبُهُ بِغَيْرِي , فَإِنَّ أَحَدًا مِنْ أُمَّتِي لَنْ يُصَابَ بِمُصِيبَةٍ بَعْدِي أَشَدَّ عَلَيْهِ مِنْ مُصِيبَتِي " . وَفِي رِوَايَةٍ ذَكَرَهَا ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ مُرْسَلًا أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ " إذَا أَصَابَ أَحَدَكُمْ مُصِيبَةٌ فَلْيَذْكُرْ مُصَابَهُ بِي فَإِنَّهَا مِنْ أَعْظَمِ الْمَصَائِبِ " وَرَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو نُعَيْمٍ . وَالْأَوَّلُ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رضي الله عنها . وَهَذِهِ الْمُصِيبَةُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مِنْ أَعْظَمِ الْمَصَائِبِ فِي الدِّينِ . قَالَ فِي تَسْلِيَةِ أَهْلِ الْمَصَائِبِ: وَمِنْ أَعْظَمِ الْمَصَائِبِ فِي الدُّنْيَا مَوْتُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ; لِأَنَّ الْمُصِيبَةَ بِهِ أَعْظَمُ مِنْ كُلِّ مُصِيبَةٍ يُصَابُ بِهَا الْمُسْلِمُ ; لِأَنَّ بِمَوْتِهِ صلى الله عليه وسلم انْقَطَعَ الْوَحْيُ مِنْ السَّمَاءِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ , وَانْقَطَعَتْ النُّبُوَّاتُ , وَكَانَ مَوْتُهُ أَوَّلَ ظُهُورِ الشَّرِّ وَالْفَسَادِ بِارْتِدَادِ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَنْ الدِّينِ مِنْ الْأَعْرَابِ , فَهُوَ أَوَّلُ انْقِطَاعِ عُرَى الدِّينِ وَنُقْصَانِهِ , وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي لَا تُحْصَى . قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رضي الله عنه: مَا نَفَّضْنَا أَيْدِيَنَا مِنْ التُّرَابِ مِنْ قَبْرِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى أَنْكَرْنَا قُلُوبَنَا . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ . وَلَقَدْ أَحْسَنَ أَبُو الْعَتَاهِيَةِ رحمه الله تعالى فِي قَوْلِهِ مُسَلِّيًا لِبَعْضِ إخْوَانِهِ فِي وَلَدٍ لَهُ اسْمُهُ مُحَمَّدٌ . اصْبِرْ لِكُلِّ مُصِيبَةٍ وتجلد وَاعْلَمْ بِأَنَّ الْمَرْءَ غَيْرُ مُخَلَّدِ أَوَ مَا تَرَى أَنَّ الْمَصَائِبَ جَمَّةٌ وَتَرَى الْمَنِيَّةَ لِلْعِبَادِ بِمَرْصَدِ مَنْ لَمْ يُصَبْ مِمَّنْ تَرَى بِمُصِيبَةٍ؟ ! هَذَا سَبِيلٌ لَسْتَ فِيهِ بِأَوْحَدِ فَإِذَا ذَكَرْتَ مُحَمَّدًا وَمُصَابَهُ فَاذْكُرْ مصابك بِالنَّبِيِّ مُحَمَّدِ وَقَدْ رَوَى ابْنُ مَاجَهْ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ " كَانَ النَّاسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذَا قَامَ الْمُصَلِّي لَمْ يَعْدُ بَصَرُ أَحَدِهِمْ مَوْضِعَ قَدَمَيْهِ فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه فَكَانَ النَّاسُ إذَا قَامَ أَحَدُهُمْ يُصَلِّي لَمْ يَعْدُ أَحَدُهُمْ مَوْضِعَ الْقِبْلَةِ فَتُوُفِّيَ أَبُو بَكْرٍ وَكَانَ عُمَرُ رضي الله عنه فَكَانَ النَّاسُ إذَا قَامَ أَحَدُهُمْ يُصَلِّي لَمْ يَعْدُ بَصَرُ أَحَدِهِمْ مَوْضِعَ الْقِبْلَةِ فَكَانَ عُثْمَانُ رضي الله عنه فَكَانَتْ الْفِتْنَةُ فَتَلَفَّتَ النَّاسُ فِي الصَّلَاةِ يَمِينًا وَشِمَالًا " إسْنَادُهُ مُقَارِبٌ . قُلْت: وَالْآنَ تَفَاقَمَ الْأَمْرُ وَتَلَاشَى الْحَالُ , فَكَمْ مِنْ قَائِمٍ فِي الصَّلَاةِ وَهُوَ غَيْرُ مُكْتَرِثٍ بِهَا حَتَّى لَا يُفَرِّقَ بِعَيْنِ قَلْبِهِ بَيْنَ وُقُوفِهِ فِيهَا وَبَيْنَ وُقُوفِهِ فِي الْأَسْوَاقِ . فَيَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قُلُوبَنَا عَلَى دِينِك يَا اللَّهُ إنَّك لَا تُخَيِّبُ مَنْ دَعَاك .
(الثَّانِي) قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ رحمه الله وَرَضِيَ عَنْهُ: مَا أُعْطِيَ أَحَدٌ فِي الْمُصِيبَةِ مَا أُعْطِيَ هَذِهِ الْأُمَّةُ , يَعْنِي إنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ وَلَوْ أُعْطِيَ أَحَدٌ لَأُعْطِيَ نَبِيُّ اللَّهِ يَعْقُوبَ عليه السلام أَلَمْ تَسْمَعْ إلَى قَوْلِهِ فِي فَقْدِ يُوسُفَ عليه السلام
(وَ) يَحْسُنُ بِمَعْنَى يُسَنُّ (تَخْصِيصُ) إنْسَانٍ (حَافٍ) غَيْرِ مُنْتَعِلٍ (بِ) مَشْيِهِ فِي (الطَّرِيقِ) أَيْ السَّبِيلِ , وَيُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ , وَجَمْعُهُ أطرقة وَطُرُقٌ . قَالَ فِي النِّهَايَةِ فِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم " إنَّ الشَّيْطَانَ قَعَدَ لِابْنِ آدَمَ بأطرقة " هِيَ جَمْعُ طَرِيقٍ عَلَى التَّأْنِيثِ ; لِأَنَّ الطَّرِيقَ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ فَجَمْعُهُ عَلَى التَّذْكِيرِ أطرقة كَرَغِيفٍ وَأَرْغِفَةٍ , وَعَلَى التَّأْنِيثِ أَطْرُقُ كَيَمِينٍ وَأَيْمُنٍ . انْتَهَى . وَفِي الْقَامُوسِ يُجْمَعُ عَلَى أطرق وَطُرُقٍ وأطرقة وطرقة , وَجَمْعُ الْجَمْعِ طُرُقَاتٌ . انْتَهَى . وَقَالَ الْحَجَّاوِيُّ فِي لُغَةِ إقْنَاعِهِ: الطَّرِيقُ مُذَكَّرٌ فِي لُغَةِ نَجْدٍ , مُؤَنَّثٌ فِي لُغَةِ الْحِجَازِ . وَالْجَمْعُ طُرُقٌ بِضَمَّتَيْنِ وَجَمْعُ الطُّرُقِ طُرُقَاتٌ . انْتَهَى . (الْمُمَهَّدِ) أَيْ الْمُسَوَّى وَالْمُصَلَّحُ الْمَبْسُوطُ , يُقَالُ مَهَدَهُ كَمَنَعَهُ بَسَطَهُ كَمَهْدِهِ . 1. وقوله تعالى وَقَوْلُهُ وَالْعُذْرُ بَسْطُهُ وَقَبُولُهُ , وَمَاءٌ مُمَهَّدٌ لَا حَارٌّ وَلَا بَارِدٌ , وَتَمَهَّدَ تَمَكَّنَ , كُلُّهُ مِنْ الْقَامُوسِ . يَعْنِي أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْإِنْسَانِ الْمُنْتَعِلِ أَنْ يَفْسَحَ لِأَخِيهِ الْحَافِي فِي الطَّرِيقِ , وَيَخُصَّهُ بِالْمَشْيِ فِيهَا , وَيَعْدِلَ هُوَ عَنْهَا لِأَجْلِ أَخِيهِ , رَأْفَةً مِنْهُ وَلُطْفًا وَمَوَدَّةً وَحِرْصًا عَلَى إيصَالِ النَّفْعِ لِأَخِيهِ الْمُسْلِمِ . وَامْتِثَالًا لِمَا رَوَى أَبُو مُحَمَّدٍ الْخَلَّالُ عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه مَرْفُوعًا . " لِيُوَسِّعَ الْمُنْتَعِلُ لِلِحَافِي عَنْ جَدَدِ الطَّرِيقِ فَإِنَّ الْمُنْتَعِلَ بِمَنْزِلَةِ الرَّاكِبِ " . قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْجَدَدُ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ الْأَرْضُ الصُّلْبَةُ . زَادَ فِي الْقَامُوسِ: الْمُسْتَوِيَةُ . وَفِيهِ: وَالْجَادَّةُ مُعْظَمُ الطَّرِيقِ . وَالْجَمْعُ جَوَادٌ وَجُدُدٌ بِالضَّمِّ . انْتَهَى . وَفِي الْمَطَالِعِ لِابْنِ قْرْقُولٍ: جَوَادٌ مَنْهَجٌ جَمْعُ جَادَّةٍ وَهِيَ أَوْضَحُ الطُّرُقِ وَأُمَّهَاتُهَا الَّتِي تُسْلَكُ عَلَيْهَا كَمَا يُقَالُ مَنْهَجٌ . قَالَ الْخَلِيلُ: وَقَدْ تُخَفَّفُ الدَّالُ
وَقَدْ لَبِسَ السِّبْتِيَّ وَهُوَ الَّذِي خَلَا مِنْ الشَّعْرِ مَعَ أَصْحَابِهِ بِهِمْ اقْتَدِ (وَقَدْ لَبِسَ) النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (السِّبْتِيَّ) نِسْبَةً إلَى السِّبْتِ بِكَسْرِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ جُلُودُ الْبَقَرِ , أَوْ كُلُّ جِلْدٍ مَدْبُوغٍ أَوْ بِالْقَرَظِ بِالْقَافِ وَالظَّاءِ الْمُعْجَمَةِ مُحَرَّكَةً , وَهُوَ وَرَقُ السَّلْمِ , وَالْقَارِظُ مُجْتَنِيهِ , وَكَشِدَادِ بَائِعُهُ . وَأَدِيمٌ مَقْرُوظٌ دُبِغَ بِهِ أَوْ صُبِغَ بِهِ مِنْ الْقَامُوسِ . وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ فِي الصِّحَاحِ: وَالسِّبْتُ بِالْكَسْرِ جُلُودُ الْبَقَرِ الْمَدْبُوغَةِ بِالْقَرَظِ تُحْذَى مِنْهُ النِّعَالُ السِّبْتِيَّةُ . وَفِي الْحَدِيثِ " يَا صَاحِبَ السِّبْتِيَّتَيْنِ اخْلَعْ سِبْتِيَّتَيْك " . ثُمَّ إنَّ النَّاظِمَ رحمه الله تعالى أَشَارَ إلَى بَيَانِ السِّبْتِيِّ بِقَوْلِهِ (وَهُوَ) الْجِلْدُ الْمَدْبُوغُ مِنْ جُلُودِ الْبَقَرِ بِالْقَرَظِ (الَّذِي خَلَا) بِالدَّبْغِ , وَالنَّتْفُ نَحْوُهُ (مِنْ الشَّعْرِ) الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ حَتَّى صَارَ غَيْرَ ذِي شَعْرٍ , وَبِهَذَا فَسَرَّهُ وَكِيعٌ (مَعَ أَصْحَابِهِ) الْأَخْيَارِ الَّذِينَ شَادَ اللَّهُ بِهِمْ الدِّينَ , وَأَطْلَعَ شَمْسَ الْيَقِينِ , فَهُمْ نُجُومُ الْهُدَى , وَمَصَابِيحُ الدُّجَى , فَقَدْ نَالُوا بِصُحْبَتِهِ صلى الله عليه وسلم مَا امْتَازُوا بِهِ عَنْ جَمِيعِ الْأُمَّةِ , وَاخْتَصَّهُمْ بِبَرَكَةِ مُشَاهَدَتِهِ حَتَّى صَارُوا أَئِمَّةً فَمَنْ اسْتَنَّ بِسُنَّتِهِمْ فَازَ وَأَفْلَحَ , وَمَنْ مَالَ عَنْ شِرْعَتِهِمْ هَلَكَ وَضَلَّ وَمَا أَنْجَحَ , فَعَلَيْهِمْ رِضْوَانُ اللَّهِ مَا تَجَلَّى بِذِكْرِهِمْ كِتَابٌ , وَمَا عَبِقَ نَشْرَ شَذَاهُمْ فَتَنَعَّمَ بِهِ ذَوُو الْأَلْبَابِ , وَلَمَّا كَانَ لَا نَجَاءَ لِأَحَدٍ مِنْ الْأُمَّةِ إلَّا بِالِاقْتِدَاءِ بِهِ صلى الله عليه وسلم وَبِأَصْحَابِهِ ; إذْ جَمِيعُ الطُّرُقِ إلَى اللَّهِ مَسْدُودَةٌ إلَّا طريقه الْمُسْتَقِيمَةَ الْمَعْهُودَةَ . قَالَ النَّاظِمُ رحمه الله تعالى (بِهِمْ) أَيْ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَبِأَصْحَابِهِ (اقْتَدِ) فِعْلُ أَمْرٍ مَجْزُومٌ بِحَذْفِ الْيَاءِ وَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ مُتَعَلِّقٌ بِهِ وَقُدِّمَ مَعَ مُنَاسَبَةِ الْقَافِيَةِ لِيُفِيدَ الْحَصْرَ أَوْ الِاهْتِمَامَ . يَعْنِي أَنَّ الِاقْتِدَاءَ إنَّمَا يَصْلُحُ بِهِمْ لَا بِزَيْدٍ وَلَا بِعَمْرٍو وَمَعْنَى اقْتَدِ اسْتَنَّ بِهِمْ , وَاحْذُ حَذْوَهُمْ , وَافْعَلْ مِثْلَ فِعْلِهِمْ مُتَأَسِّيًا بِهِمْ . وَفُلَانٌ قُدْوَةٌ أَيْ يُقْتَدَى بِهِ , وَالضَّمُّ أَكْثَرُ مِنْ الْكَسْرِ . وَفِي الْقَامُوسِ: الْقُدْوَةُ مُثَلَّثَةٌ وَكَعُدَّةِ مَا تسننت بِهِ واقتديت بِهِ . وَقَدْ رَوَى أَبُو بَكْرٍ الْآجُرِّيُّ فِي كِتَابِ اللِّبَاسِ بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّهُ كَانَ يَلْبَسُ النَّعْلَ السِّبْتِيَّةَ , وَيَتَوَضَّأُ فِيهَا وَيَذْكُرُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ . وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمَا . وَرَوَاهُ الْحَافِظُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ بِسَنَدِهِ إلَى عُبَيْدِ بْنِ جُرَيْجٍ أَنَّهُ قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: رَأَيْتُك تَلْبَسُ النِّعَالَ السِّبْتِيَّةَ , قَالَ إنِّي رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَلْبَسُ النِّعَالَ السِّبْتِيَّةَ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا شَعْرٌ وَيَتَوَضَّأُ فِيهَا . وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ . قَالَ: وَقَالَ أَبُو ذَرٍّ رضي الله عنه: رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي فِي نَعْلَيْنِ مَخْصُوفَيْنِ مِنْ جُلُودِ الْبَقَرِ .
(تَنْبِيهَاتٌ: الْأَوَّلُ) قَالَ عُلَمَاؤُنَا - رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى -: يُسْتَحَبُّ كَوْنُ النَّعْلِ أَصْفَرَ وَالْخُفِّ أَحْمَرَ أَوْ أَسْوَدَ . قَالَ فِي الْآدَابِ: وَيُرْوَى عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كُثَيْرٍ أَنَّهُ قَالَ: النَّعْلُ السَّوْدَاءُ تُورِثُ الْهَمَّ . وَأَظُنُّ الْقَاضِيَ ذَكَرَهُ فِي كِتَابِ اللِّبَاسِ , قَالَ فَيُؤْخَذُ مِنْهُ الْكَرَاهَةُ . قَالَ: وَرَوَى أَبُو مُحَمَّدٍ الْخَلَّالُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: مَنْ لَبِسَ نَعْلًا صَفْرَاءَ لَميَزَلْ يَنْظُرُ فِي سُرُورٍ ثُمَّ قَرَأَ وَذَكَرَ ابْنُ تَمِيمٍ أَنَّ الْإِمَامَ أَحْمَدَ رضي الله عنه قَالَ: لَا بَأْسَ بِالْخَشَبِ أَنْ يَمْشِيَ فِيهِ إن كَانَ لِحَاجَةٍ . قَالَ الْيُونِينِيُّ فِي مُخْتَصَرِ الْآدَابِ: وَنَقَلْت مِنْ مَسَائِلِ حَرْبٍ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ رضي الله عنه قِيلَ لَهُ فَالنَّعْلُ مِنْ الْخَشَبِ؟ قَالَ: لَا بَأْسَ بِهَا إذَا كَانَ مَوْضِعُ ضَرُورَةٍ , وَهُوَ فِي الْآدَابِ , وَكَأَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ الْقِبْقَابِ وَالنَّعْلِ مِنْ الْخَشَبِ . وَالْمَذْهَبُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - لَا بَأْسَ , وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ . (الثَّالِثُ) قَالَ فِي الْفُرُوعِ: وَيُسَنُّ أَنْ يُقَابِلَ بَيْنَ نَعْلَيْهِ . وَكَانَ لِنَعْلِهِ صلى الله عليه وسلم قِبَالَانِ بِكَسْرِ الْقَافِ , وَهُوَ السَّيْرُ بَيْنَ الْوُسْطَى وَاَلَّتِي تَلِيهَا , وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي الشَّمَائِلِ وَابْنُ مَاجَهْ , وَفِي الْمُخْتَارَةِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوَدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ . قَالَ فِي النِّهَايَةِ: الْقِبَالُ زِمَامُ النَّعْلِ , وَهُوَ السَّيْرُ الَّذِي يَكُونُ بَيْنَ الْأُصْبُعَيْنِ , وَقَدْ أَقْبَلَ نَعْلَهُ , وَقَابَلَهَا . وَمِنْهُ الْحَدِيثُ قَابِلُوا النِّعَالَ أَيْ اعْمَلُوا لَهَا قِبَالًا . وَنَعْلٌ مُقَبَّلَةٌ إذَا جُعِلَتْ لَهَا قِبَالًا , وَمَقْبُولَةٌ: إذَا شَدَدْت قِبَالَهَا . انْتَهَى . (الرَّابِعُ) يُكْرَهُ أَنْ يُخَالِفَ بَيْنَ نَعْلَيْهِ بِلَا حَاجَةٍ لِمَا فِيهِ مِنْ الشُّهْرَةِ وَالِاسْتِهْجَانِ
وَيُكْرَهُ سندي النِّعَالِ لِعُجْبِهِ بصرارها زِيُّ الْيَهُودِ فأبعد (وَيُكْرَهُ) لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ لُبْسُ (سَنْدِيِّ النِّعَالِ) أَيْ الْمَنْسُوبَةِ إلَى السِّنْدِ (لِ) أَجْلِ (عُجْبِهِ) أَيْ لَابِسُهَا (بصرارها) أَيْ بِصَوْتِهَا وَجَلَبَتِهَا كَصَرِيرِ الْبَابِ . وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى نَصَّ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رضي الله عنه عَلَى كَرَاهَةِ اتِّخَاذِ النِّعَالِ السندية . قَالَ لَهُ الْمَرُّوذِيُّ: أَمَرُونِي فِي الْمَنْزِلِ أَنْ أَشْتَرِيَ نَعْلًا سنديا لِلصِّبْيَةِ , فَقَالَ: لَا تَشْتَرِ . فَقُلْت: يُكْرَهُ لِلنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ؟ قَالَ: نَعَمْ أَكْرَهُهُ , وَإِنْ كَانَ لِلْمَخْرَجِ وَالطِّينِ فَأَرْجُو , وَأَمَّا إنْ أَرَادَ الزِّينَةَ فَلَا . وَقَالَ عَنْ شَخْصٍ لَبِسَهَا يَتَشَبَّهُ بِأَوْلَادِ الْمُلُوكِ . وَقَالَ فِي رَايَةِ صَالِحٍ: إذَا كَانَ لِلْوُضُوءِ فَأَرْجُو , وَأَمَّا لِلزِّينَةِ فَأَكْرَهُهُ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ , وَكَرِهَهُ أَيْضًا فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي حَرْبٍ فَقَالَ: إنْ كَانَ لِلْكَنِيفِ وَالْوُضُوءِ يَعْنِي فَلَا كَرَاهَةَ . وَقَالَ رضي الله عنه: أَكْرَهُ الصرارة: وَقَالَ: مِنْ زِيِّ الْعَجَمِ . وَلِذَا قَالَ النَّاظِمُ رحمه الله (زِيُّ) أَيْ هِيَ زِيُّ (الْيَهُودِ) الْمَغْصُوبِ عَلَيْهِمْ (فأبعد) فِعْلُ أَمْرٍ مَجْزُومٌ وَحُرِّكَ بِالْكَسْرِ لِلْقَافِيَةِ . وَيُحْتَمَلُ قِرَاءَةُ زِيِّ بِالْفَتْحِ مَفْعُولٌ مُقَدَّمٌ لأبعد , أَيْ أَبْعِدْ زِيَّ الْيَهُودِ وَلَا تَقْرَبْهُ فَإِنَّا نُهِينَا عَنْ التَّشَبُّهِ بِهِمْ وَبِسَائِرِ الْأَعْجَامِ , وَفِي الْآدَابِ الْكُبْرَى حَكَى ابْنُ الْجَوْزِيِّ عَنْ ابْنِ عَقِيلٍ تَحْرِيمَ الصَّرِيرِ فِي الْمَدَاسِ وَيَحْتَمِلُهُ كَلَامُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ . (فَائِدَةٌ) فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ " اسْتَكْثِرُوا مِنْ النِّعَالِ فَإِنَّ الرَّجُلَ لَا يَزَالُ رَاكِبًا مَا انْتَعَلَ " . قَالَ الْقَاضِي: يَدُلُّ عَلَى تَرْغِيبِ اللُّبْسِ لِلنِّعَالِ وَلِأَنَّهَا قَدْ تَقِيهِ الْحَرَّ وَالْبَرْدَ وَالنَّجَاسَةَ . قَالَ النَّوَوِيُّ: أَيْ إنَّهُ شَبِيهٌ بِالرَّاكِبِ فِي خِفَّةِ الْمَشَقَّةِ وَقِلَّةِ التَّعَبِ وَسَلَامَةِ الرِّجْلِ مِنْ أَذَى الطَّرِيقِ . وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: هَذَا كَلَامٌ بَلِيغٌ , وَلَفْظٌ فَصِيحٌ بِحَيْثُ لَا يُنْسَجُ عَلَى مِنْوَالِهِ . وَلَا يُؤْتَى بِمِثَالِهِ , وَهُوَ إرْشَادٌ إلَى الْمَصْلَحَةِ , وَتَنْبِيهٌ عَلَى مَا يُخَفِّفُ الْمَشَقَّةَ , فَإِنَّ الْحَافِيَ الْمُدِيمَ لِلْمَشْيِ , يَلْقَى مِنْ الْآلَامِ وَالْمَشَقَّةِ بِالْعِثَارِ وَغَيْرِهِ مَا يَقْطَعُهُ عَنْ الْمَشْيِ وَيَمْنَعُهُ مِنْ الْوُصُولِ إلَى مَقْصُودِهِ , بِخِلَافِ الْمُنْتَعِلِ فَإِنَّهُ لَا يَمْنَعُهُ مِنْ إدَامَةِ الْمَشْيِ فَيَصِلُ إلَى مَقْصُودِهِ كَالرَّاكِبِ ; فَلِذَلِكَ يُشَبَّهُ بِهِ . انْتَهَى .
وَامْشِ واركبن تمعدد واخشوشن وَلَا تتعود (وَسِرْ) حَالَةَ كَوْنِك (حَافِيًا) بِلَا نَعْلٍ أَحْيَانًا اقْتِدَاءً بِسَيِّدِ الْعَالَمِ صلى الله عليه وسلم (أَوْ) سِرْ فِي حَالِ كَوْنِك (حَاذِيًا) أَيْ مُنْتَعِلًا يُقَالُ: حَذَا النَّعْلَ حَذْوًا وَحِذَاءً قَدَّرَهَا وَقَطَعَهَا . وَحَذَا الرَّجُلُ نَعْلًا أَلْبَسَهُ إيَّاهَا كأحذاه . وَعَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ رضي الله عنه أَنَّهُ لَمَّا كَانَ أَمِيرًا بِمِصْرِ قَالَ لَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ لَا أَرَى عَلَيْك حِذَاءً قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُنَا أَنْ نَحْتَفِيَ أَحْيَانَا . وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ . وَيُرْوَى هَذَا الْمَعْنَى عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه . وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ بِرِجَالٍ ثِقَاتٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ " كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَمْشِي حَافِيًا وَنَاعِلًا " . قَالَ الْإِمَامُ الْمُحَقِّقُ فِي الْهَدْيِ النَّبَوِيِّ: كَانَ صلى الله عليه وسلم يَمْشِي حَافِيًا وَمُنْتَعِلًا . قَالَ الشَّمْسُ الشَّامِيُّ: أَمَّا مَشْيُهُ مُنْتَعِلًا فَهُوَ أَكْثَرُ مَشْيِهِ , وَأَمَّا حَافِيًا فَذَكَرَهُ الْغَزَالِيُّ فِي الْإِحْيَاءِ أَيْضًا , وَاسْتَدَلَّ لَهُ الْحَافِظُ الْعِرَاقِيُّ بِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ . عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه فِي عِيَادَتِهِ صلى الله عليه وسلم لِسَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ قَالَ: فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقُمْنَا مَعَهُ , وَنَحْنُ بِضْعَةَ عَشَرَ مَا عَلَيْنَا نِعَالٌ وَلَا خِفَافٌ وَلَا قَلَانِسُ وَلَا قُمُصٌ نَمْشِي فِي السِّبَاخِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . (وَامْشِ) أَحْيَانًا (وَارْكَبَنْ) فِعْلُ أَمْرٍ مُؤَكَّدٌ بِالنُّونِ الْخَفِيفَةِ وَارْكَبْ أَحْيَانًا وَلَا تَتَنَعَّمْ كُلَّ النَّعَمِ , وَلَا تَتَقَشَّفْ كُلَّ التَّقَشُّفِ , فَتَارَةً هَكَذَا وَتَارَةً هَكَذَا
(تَمَعْدَدْ) أَيْ اتَّبِعْ سُنَّةَ مَعْدِ بْنِ عَدْنَانَ فِي التَّقَشُّفِ , وَعَدَمِ التَّنَعُّمِ (وَاخْشَوْشِنْ) قَدْ قَدَّمْنَا مَا رَوَاهُ أَبُو عَوَانَةَ فِي مُسْنَدِهِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ وَفِيهِ " وَتَمَعْدَدُوا وَاخْشَوْشِنُوا وَاقْطَعُوا الرَّكْبَ وَانْزُوا وَارْمُوا الْأَغْرَاضَ " . وَذَكَرْنَا أَيْضًا مَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْمُعْجَمِ عَنْ أَبِي حَدْرَدٍ الْأَسْلَمِيِّ مَرْفُوعًا " تَمَعْدَدُوا وَاخْشَوْشِنُوا " . قَالَ فِي الْفُرُوعِ: قَوْلُهُ تَمَعْدَدُوا أَمْرٌ بِاللُّبْسَةِ الْخَشِنَةِ الْمَنْسُوبَةِ إلَى مَعْدِ بْنِ عَدْنَانَ , وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: وَعَلَيْكُمْ بِالْمُعَدِّيَةِ . وَقِيلَ مَعْنَى تَمَعْدَدُوا أَيْ مِنْ الْغِلَظِ , وَمِنْهُ يُقَالُ لِلْغُلَامِ إذَا شَبَّ وَغَلُظَ تَمَعْدَدَ . قَالَ الْهَرَوِيُّ: وَيُقَالُ تَمَعْدَدُوا: تَشَبَّهُوا بِعَيْشِ مَعْدٍ وَكَانُوا أَهْلَ غِلَظٍ وَقَشَفٍ . وَقَالَ فِي الْقَامُوسِ: اخْشَوْشَنَ وَتَخَشَّنَ اشْتَدَّتْ خُشُونَتُهُ , أَوْ لَبِسَ الْخَشِنَ , أَوْ تَكَلَّمَ بِهِ , أَوْ عَاشَ عَيْشًا خَشِنًا , وَاخْشَوْشَنَ أَبْلَغُ فِي الْكُلِّ . وَقَالَ الْعَلْقَمِيُّ: اخْشَوْشِنُوا بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ الْأُولَى يَعْنِي الشِّينَ وَسُكُونِ الْوَاوِ وَبِكَسْرِ الثَّانِيَةِ أَمْرٌ مِنْ الْخُشُونَةِ . قَالَ فِي الدُّرِّ: أَيْ كُونُوا كَمَعْدِ بْنِ عَدْنَانَ وَكَانُوا أَهْلَ غِلَظٍ وَقَشَفٍ , وَعَلَيْكُمْ بِاللُّبْسَةِ الْمُعَدِّيَةِ أَيْ خُشُونَةُ اللِّبَاسِ . وَرَوَى تَمَعْزَزُوا وَاخْشَوْشِنُوا بِالزَّايِ , أَيْ كُونُوا أَشَدَّ صَبْرًا مِنْ الْمَعْزِ , وَهُوَ الشِّدَّةُ كَمَا فِي النِّهَايَةِ انْتَهَى . وَكُنْت فِيمَا تَقَدَّمَ تَكَلَّمْت عَلَى قَوْلِهِ (وَاقْطَعُوا الرَّكْبَ) مِنْ عِنْدِي , ثُمَّ رَأَيْت الْعَلَّامَةَ ابْنَ قُنْدُسٍ ذَكَرَ فِي حَوَاشِي الفروع وَعِبَارَتُهُ: الظَّاهِرُ أَنَّ الرَّكْبَ جَمْعُ رِكَابٍ مِثْلُ كِتَابٍ وَكُتُبٍ , وَالْمُرَادُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّهُمْ يُلْقُونَ رَكْبَ الْخَيْلِ وَيَرْكَبُونَ بِغَيْرِ رَكْبٍ وَيَنْزُونَ عَلَيْهَا نَزْوًا أَيْ يَثِبُونَ وَثْبًا لِأَنَّهُمْ يَأْلَفُونَ بِذَلِكَ الْقُوَّةَ وَالنَّشَاطَ وَالْخُشُونَةَ , قَالَ: وَلَمْ أَرَ فِي ذَلِكَ نَقْلًا أَعْتَمِدُ عَلَيْهِ فَيُعْلَمُ ذَلِكَ . وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ الْخَبَرَ وَفِيهِ " وَاقْطَعُوا الرَّكْبَ وَانْزُوا عَلَى الْخَيْلِ " وَهَذَا يُؤَكِّدُ الْمَعْنَى الْمُشَارَ إلَيْهِ وَفِيهِ وَاخْشَوْشِنُوا . قَالَ فِي نَظْمِ النِّهَايَةِ: وَاخْشَوْشِنُوا أَيْ: اخْشَنُوا فِي دِينِكُمْ ثُمَّ اُصْلُبُوا , فَأَفَادَنَا رحمه الله تعالى أَنَّ طَلَبَ الْخُشُونَةِ الصَّلَابَةُ فِي الدِّينِ وَهُوَ - وَإِنْ كَانَ بَعِيدًا - حَسَنٌ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ . وَعَنْ حُذَيْفَةَ رضي الله عنه مَرْفُوعًا " اقْتَدُوا بِاَللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَاقْتَدُوا بِهَدْيِ عَمَّارٍ , وَتَمَسَّكُوا بِعَهْدِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ " قُلْت: مَا هَدْيُ عَمَّارٍ؟ قَالَ: التَّقَشُّفُ وَالتَّشْمِيسُ . وَتَقَدَّمَ مَا فِيهِ كِفَايَةٌ
ثُمَّ قَالَ النَّاظِمُ رحمه الله تعالى (وَلَا تَتَعَوَّدْ) هَذِهِ لَا النَّاهِيَةُ وَتَتَعَوَّدُ مَجْزُومٌ بِهَا وَحُرِّكَ بِالْكَسْرِ لِلْقَافِيَةِ . أَيْ لَا تَلْتَزِمْ عَادَةً وَاحِدَةً بَلْ كُنْ مَعَ الدَّهْرِ حَيْثُ كَانَ , فَإِذَا وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْك فَلَا بَأْسَ أَنْ تُظْهِرَ أَثَرَ نِعْمَتِهِ عَلَيْك مِنْ غَيْرِ كِبْرٍ وَلَا عُجْبٍ وَلَا خُيَلَاءَ , وَإِذَا تَقَلَّصَ الْعَيْشُ فَأَلْزِمْ نَفْسَك الصَّبْرَ وَالرِّضَا بِالْقَضَاءِ وَكُنْ مُطْمَئِنَّ الْقَلْبِ مُنْشَرِحَ الصَّدْرِ تَكُنْ مِنْ خَيْرِ عِبَادِ اللَّهِ . وَلَا بُدَّ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ أَنْ يَكُونَ اللُّبْسُ لِلَّهِ فَإِنْ كَانَ جَمِيلًا يَكُونُ إظْهَارًا لِلنِّعْمَةِ , وَأَنْ يَرَى عَلَيْهِ أَثَرَهَا , وَلَا يَكُونُ سَبَبُ لُبْسِهِ أَنَّهُ غَارَ مِنْ غَيْرِهِ بِأَنْ رَأَى عَلَى غَيْرِهِ لِبَاسًا جَمِيلًا فَغَارَ مِنْهُ فَفَعَلَ مِثْلَهُ , وَلَا يَكُونُ اللُّبْسُ لِلشُّهْرَةِ , وَلَا شَكَّ أَنَّ ثَوْبَ الشُّهْرَةِ تَارَةً يَكُونُ غَالِيًا لَهُ قِيمَةٌ كَثِيرَةٌ وَتَارَةً يَكُونُ نَازِلًا قَلِيلَ الثَّمَنِ لَهُ مَنْظَرٌ غَيْرُ حَسَنٍ وَهُمَا الشُّهْرَتَانِ وَقَدْ نُهِينَا عَنْهُمَا , وَلَا وَجْهَ لِلْمُنَافَسَةِ فِي الدُّنْيَا إذَا كُنْت عَلَى بَصِيرَةٍ مِنْ أَنَّهَا لَا تَعْدِلُ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ . فَائِدَتَانِ: (الْأُولَى) تَقَدَّمَ أَنَّ السَّلَفَ الصَّالِحَ كَانُوا لَا يَرُدُّونَ مَوْجُودًا , وَلَا يَتَكَلَّفُونَ مَفْقُودًا , بَلْ كَانَتْ حَالَتُهُمْ التَّسْلِيمَ لِلْعَلِيمِ الْحَكِيمِ , فَإِذَا قُدِّمَ إلَيْهِمْ الطَّيِّبُ لَمْ يَمْتَنِعُوا مِنْ تَنَاوُلِهِ , وَإِذَا حَصَلَ لَهُمْ الْخَشِنُ لَمْ يَأْنَفُوا مِنْ أَكْلِهِ , وَكَذَا اللِّبَاسُ , وَكُلُّ شُئُونِهِمْ كَانَتْ مُنْطَبِقَةً عَلَى هَذَا الشَّأْنِ . وَهَذَا الْمُرَادُ بِقَوْلِ النَّاظِمِ رحمه الله وَلَا تَتَعَوَّدْ لِعَادَةٍ يَحْصُلُ لَكَ إذَا فَقَدْتَهَا بَعْضُ تَأَلُّمٍ أَوْ ضَرَرٍ , فَإِنَّ الطَّبِيعَةَ سَرَّاقَةٌ , فَمَنْ أَلِفَ التَّنَعُّمَ صَعُبَ عَلَيْهِ فِرَاقُهُ . فَيَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ يَكُونَ تَارَةً هَكَذَا وَتَارَةً هَكَذَا , وَهَذَا شَأْنُ الْعَبْدِ مَعَ سَيِّدِهِ إنْ مَنَحَهُ شَكَرَ , وَإِنْ مَنَعَهُ صَبَرَ .
(الثَّانِيَةُ) الْمُعْتَبَرُ مِنْ الْإِنْسَانِ الْمَعْنَى وَالصِّفَاتُ , لَا الْمَلَابِسُ وَالذَّاتُ . وَقَدْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: صلى الله عليه وسلم " إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَبَذِّلَ الَّذِي لَا يُبَالِي مَا لَبِسَ " وَرَوَى أَبُو مَنْصُورٍ الدَّيْلَمِيُّ فِي مُسْنَدِ الْفِرْدَوْسِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " لَيْسَ الْبِرُّ فِي حُسْنِ اللِّبَاسِ وَالزِّيِّ وَلَكِنَّ الْبِرَّ فِي السَّكِينَةِ وَالْوَقَارِ " . وَرَوَى أَبُو الْقَاسِمِ الْأَصْبَهَانِيُّ التَّيْمِيُّ فِي التَّرْغِيبِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ قَالَ: رَأَى عَلَيَّ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - جُبَّةَ خَزٍّ فَقَالَ لِي: إنَّك حَسَنُ الْجُبَّةِ قُلْت وَمَا تُغْنِي عَنِّي , وَقَدْ أَفْسَدَهَا عَلَيَّ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ سَالِمٌ يَعْنِي ابْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رضي الله عنهم , قَالَ لِي أَصْلِحْ قَلْبَكَ وَالْبَسْ مَا شِئْت . قُلْت: وَقَدْ أَكْثَرَ الشُّعَرَاءُ مِنْ أَصْحَابِ الرِّقَاقِ وَالْبُلَغَاءِ وَأَصْحَابِ الْحِكَمِ وَالدَّقَائِقِ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى , فَمِنْهُ قَوْلُ ابْنِ الْوَرْدِيِّ فِي لَامِيَّتِهِ: خُذْ بِنَصْلِ السَّيْفِ وَاتْرُكْ غِمْدَهُ وَاعْتَبِرْ فَضْلَ الْفَتَى دُونَ الْحُلَلْ لَا يَضُرُّ الْفَضْلَ إقْلَالٌ كَمَا لَا يَضُرُّ الشَّمْسَ إطْبَاقُ الطَّفَلْ فَنَصْلُ السَّيْفِ حَدِيدَتُهُ , وَغِمْدُهُ جَفْنُهُ , وَالْحُلَلُ جَمْعُ حُلَّةٍ , وَالطَّفَلُ الظُّلْمَةُ مِنْ اللَّيْلِ السَّاتِرَةُ لِلشَّمْسِ . وَالْمَعْنَى: أَنَّ أَصْحَابَ الْفَضَائِلِ الْكَامِلَةِ لَا يَضُرُّهُمْ إقْلَالُهُمْ ذَاتَ يَدِهِمْ وَلَا أَخْلَاقُ ثِيَابِهِمْ كَمَا لَا يَضُرُّ الْفَرَسَ الْعَتِيقَ خَلَاقَةُ جِلِّهِ , وَلَا الْجَمَلَ الْكَرِيمَ رَثَاثَةُ قَتَبِهِ . وَمِثْلُهُ قَوْلُ بَعْضِهِمْ: وَمَا ضَرَّ نَصْلَ السَّيْفِ إخْلَاقُ غِمْدِهِ إذَا كَانَ عَضْبًا حِينَ يَضْرِبُ بَاتِرًا وَقَدْ أَحْسَنَ الْقَائِلُ: قَدْ يُدْرِكُ الْمَجْدَ الْفَتَى وَإِزَارُهُ خَلَقٌ وَجَيْبُ قَمِيصِهِ مَرْقُوعُ وَأَنْشَدَ ابْنُ دُرَيْدٍ لِبَعْضِ الْأَعْرَابِ: يُغَايِظُونَا بِقُمْصَانٍ لَهُمْ جُدُدٍ كَأَنَّنَا لَا نَرَى فِي السُّوقِ قُمْصَانَا لَيْسَ الْقَمِيصُ وَإِنْ جَدَّدْت رُقْعَتَهُ بِجَاعِلٍ رَجُلًا إلَّا كَمَا كَانَا وَعَنْ مُسْلِمِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: إذَا لَبِسْتَ ثَوْبًا فَظَنَنْت أَنَّك فِيهِ أَفْضَلُ مِمَّا فِي غَيْرِهِ فَبِئْسَ الثَّوْبُ هُوَ لَكَ . وَقَالَ مَنْصُورُ بْنُ عَمَّارٍ: مَنْ تَعَرَّى مِنْ لِبَاسِ التَّقْوَى لَمْ يَسْتَتِرْ بِشَيْءٍ مِنْ لِبَاسِ الدُّنْيَا وَقَدْ قِيلَ: لَا يَسُودُ الْمَرْءُ حَتَّى لَا يُبَالِيَ فِي أَيِّ ثَوْبَيْهِ ظَهَرَ . وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: رَأَيْت أَعْرَابِيًّا فَاسْتَنْشَدْتُهُ فَأَنْشَدَنِي أَبْيَاتًا وَرَوَى أَخْبَارًا , فَتَعَجَّبْت مِنْ مَقَالِهِ وَسُوءِ حَالِهِ , فَسَكَتَ سَكْتَةً ثُمَّ قَالَ هَذِهِ الْأَبْيَاتُ: أَأُخَيَّ إنَّ الْحَادِثَا تِ تَرْكَنَنِي عَرَكَ الْأَدِيمِ لَا تُنْكِرَنْ أَنْ قَدْ رَأَيْت أَخَاك فِي كَرْبٍ عَدِيمِ إنْ كُنَّ أَثْوَابِي بُلِينَ فَإِنَّهُنَّ عَلَى كَرِيمِ وَقَالَ آخَرُ وَعَزَاهَا فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى لِلْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ رحمه الله وَرَضِيَ عَنْهُ: عَلَيَّ ثِيَابٌ لَوْ تُقَاسُ جَمِيعُهَا بِفَلْسٍ لَكَانَ الْفَلْسُ مِنْهُنَّ أَكْثَرَا وَفِيهِنَّ نَفْسٌ لَوْ يُقَاسُ بِبَعْضِهَا نُفُوسُ الْوَرَى كَانَتْ أَجَلَّ وَأَكْبَرَا وَمَا ضَرَّ نَصْلَ السَّيْفِ إخْلَاقُ غِمْدِهِ إذَا كَانَ عَضْبًا حَيْثُ وَجَّهْته بَرَى وَقَالَ بَعْضُهُمْ وَأَحْسَنَ: لَا يُعْجِبَنَّكَ مَنْ يَصُونُ ثِيَابَهُ حَذَرَ الْغُبَارِ وَعِرْضُهُ مَبْذُولُ وَلَرُبَّمَا افْتَقَرَ الْفَتَى فَرَأَيْته دَنِسَ الثِّيَابِ وَعِرْضُهُ مَغْسُولُ وَقَالَ الْمُتَنَبِّي: لَئِنْ كَانَ ثَوْبِي دُونَ قِيمَتِهِ فَلْسٌ فَلَا فِيهِ نَفْسٌ دُونَ قِيمَتِهَا الْإِنْسُ فَثَوْبُك بَدْرٌ تَحْتَ أَنْوَارِهِ الدُّجَى وَثَوْبِي لَيْلٌ تَحْتَ أَطْمَارِهِ شَمْسٌ وَقَالَ الْمَعَرِّيُّ فِي قَصِيدَتِهِ اللَّامِيَّةِ وَيُقَالُ لَهَا الطَّامَّاتُ: تُعَدُّ ذُنُوبِي عِنْدَ قَوْمٍ كَثِيرَةً وَلَا ذَنْبَ لِي إلَّا الْعُلَا وَالْفَضَائِلُ إلَى أَنْ يَقُولَ فِيهَا: وَإِنِّي وَإِنْ كُنْت الْأَخِيرَ زَمَانُهُ لَآتٍ بِمَا لَمْ تَسْتَطِعْهُ الْأَوَائِلُ وَأَيُّ جَوَادٍ لَمْ يُحَلَّ لِجَامُهُ وَنِضْوُ يَمَانٍ أَغْفَلَتْهُ الصَّيَاقِلُ وَإِنْ كَانَ فِي لُبْسِ الْفَتَى شَرَفٌ لَهُ فَمَا السَّيْفُ إلَّا غِمْدُهُ وَالْحَمَائِلُ وَعَلَى كُلِّ حَالٍ الْآدَمِيُّ خُلِقَ مِنْ التُّرَابِ , وَالتُّرَابُ مِنْ الْأَرْضِ , وَهِيَ تَارَةً تُعَرَّى وَأُخْرَى تُكْتَسَى . وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَغْتَرُّ بِاللِّبَاسِ , فَإِنَّ الذَّاتَ أَشْرَفُ مِنْهُ , وَلَا يَغْتَرُّ بِالْأَجْسَامِ فَإِنَّ وَرَاءَ هَذَا الْجِسْمِ مَا هُوَ أَشْرَفُ مِنْهُ وَأَرْقَى مَنْزِلَةً , وَأَعْظَمَ شَأْنًا . يَا خَادِمَ الْجِسْمِ كَمْ تَسْعَى لِخِدْمَتِهِ أَتَطْلُبُ الرِّبْحَ فِيمَا فِيهِ خُسْرَانُ؟ أَقْبِلْ عَلَى النَّفْسِ وَاسْتَكْمِلْ فَضَائِلَهَا فَأَنْتَ بِالرُّوحِ لَا بِالْجِسْمِ إنْسَانُ
وَيُكْرَهُ فِي الْمَشْيِ الْمُطَيْطَا وَنَحْوُهَا مَظِنَّةَ كِبْرٍ غَيْرَ فِي حَرْبِ جُحَّدِ (وَيُكْرَهُ) تَنْزِيهًا (فِي الْمَشْيِ) جَارٌّ وَمَجْرُورٌ مُتَعَلِّقٌ بِمَا قَبْلَهُ (الْمُطَيْطَا) نَائِبُ فَاعِلٍ أَيْ يَكْرَهُ الشَّارِعُ الْمُطَيْطَا كَجُمَيزَا . قَالَ فِي الْقَامُوسِ: التَّبَخْتُرُ وَمَدُّ الْيَدَيْنِ فِي الْمَشْيِ , وَيُقْصَرُ كالْمُطَيْطَا انْتَهَى . وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ فِي حَدِيثِ " إذَا مَشَتْ أُمَّتِي الْمُطَيْطَا " هِيَ بِالْمَدِّ وَالْقَصْرِ مِشْيَةٌ فِيهَا تَبَخْتُرٌ وَمَدُّ الْيَدَيْنِ , وَيُقَالُ مَطَوْت وَمَطَطْت بِمَعْنَى مَدَدْت , وَهِيَ مِنْ الْمُصَغَّرَاتِ الَّتِي لَمْ تُسْتَعْمَلْ لَهَا مُكَبَّرٌ . وَقَالَ الْحِجَّاوِيُّ فِي شَرْحِ هَذَا الْبَيْتِ: الْمُطَيْطَاءُ , بِضَمِّ الْمِيمِ مَمْدُودًا وَقَصَرَهُ النَّاظِمُ ضَرُورَةً . انْتَهَى . وَقَدْ عَلِمْت أَنَّ الْقَصْرَ لُغَةٌ فِيهَا لَا ضَرُورَةٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَإِنَّمَا كُرِهَتْ مِشْيَةُ الْمُطَيْطَاءِ لِمَا فِيهَا مِنْ رَوَائِحَ لِلْكِبْرِ وَالْخُيَلَاءِ وَالزَّهْوِ وَالْعُجْبِ ; فَلِهَذَا نَهَى عَنْهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي ضِمْنِ مَا رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ خَوْلَةَ بِنْتِ قَيْسٍ رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ " إذَا مَشَتْ أُمَّتِي الْمُطَيْطَاءَ , وَخَدَمَتْهُمْ فَارِسُ وَالرُّومُ سُلِّطَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ " وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما . قَالَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ: الْمُطَيْطَاءُ بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ الطَّاءَيْنِ الْمُهْمَلَتَيْنِ بَيْنَهُمَا يَاءٌ مُثَنَّاةٌ تَحْتُ مَمْدُودًا وَيُقْصَرُ التَّبَخْتُرُ وَمَدُّ الْيَدَيْنِ فِي الْمَشْيِ . وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَوَاهَا الْإِمَامُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ وَالْبَغَوِيُّ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ " إذَا مَشَتْ أُمَّتِي الْمُطَيْطَاءَ وَخَدَمَتْهُمْ أَبْنَاءُ الْمُلُوكِ أَبْنَاءُ فَارِسَ وَالرُّومِ سَلَّطَ اللَّهُ - تَعَالَى - خِيَارَهَا عَلَى شِرَارِهَا " . (وَ) يُكْرَهُ فِي الْمَشْيِ (نَحْوُهَا) أَيْ نَحْوُ الْمُطَيْطَاءِ وَفِي نُسْخَةٍ وَشَبَهُهَا بَدَلَ وَنَحْوُهَا , وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ يَعْنِي أَنَّ مِشْيَةَ الْمُطَيْطَاءِ وَمَا قَارَبَهَا مِنْ الْمِشْيَاتِ مَكْرُوهٌ حَيْثُ كَانَ ذَلِكَ (مَظِنَّةَ كِبْرٍ) أَيْ إنَّمَا كُرِهَتْ هَذِهِ الْمِشْيَةُ ; لِأَنَّهَا مَظِنَّةُ الْكِبْرِ أَوْ لِئَلَّا يُظَنَّ بِهِ الْكِبْرُ , فَإِنْ كَانَ الْحَامِلُ لَهُ عَلَيْهَا الْكِبْرَ وَالْعُجْبَ حُرِّمَتْ ; لِأَنَّ ذَلِكَ كَبِيرَةٌ , وَتَقَدَّمَ مِنْ مَثَالِبِ ذَلِكَ مَا فِيهِ غُنْيَةٌ , وَالْمَظِنَّةُ مَأْخُوذَةٌ مِنْ الظَّنِّ وَهُوَ تَرْجِيحُ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ عَلَى الْآخَرِ , وَالْمَرْجُوحُ يُسَمَّى وَهْمًا .
ثُمَّ لَمَّا لَمْ تَكُنْ كَرَاهَةُ ذَلِكَ مُطْلَقَةً , بَلْ قَدْ يُبَاحُ التَّبَخْتُرُ وَالْخُيَلَاءُ وَالتَّكَبُّرُ وَذَلِكَ فِي حَرْبِ الْكُفَّارِ أَشَارَ النَّاظِمُ إلَى اسْتِثْنَاءِ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ (غَيْرَ) أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ الْمُطَيْطَاءُ وَالتَّبَخْتُرُ وَلَا الْكِبْرُ وَالْخُيَلَاءُ (فِي) حَالَةِ (حَرْبِ جُحَّدِ) جَمْعُ جَاحِدٍ , أَيْ كُفَّارٌ , يُقَالُ جَحَدَهُ حَقَّهُ كَمَنَعَهُ جَحْدًا وَجُحُودًا أَنْكَرَهُ مَعَ عِلْمِهِ , وَالْكَافِرُ قَدْ أَنْكَرَ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ , إنَّمَا لَمْ يُكْرَهْ فِي حَالَةِ الْحَرْبِ ; لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ إظْهَارُ الْقُوَّةِ وَالْجَلَدِ وَعَدَمِ الِاكْتِرَاثِ بِالْعَدُوِّ . وَقَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام فِيمَا رَوَاهُ جَابِرُ بْنُ عَتِيكٍ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام: " إنَّ مِنْ الْخُيَلَاءِ مَا يَبْغَضُ اللَّهُ وَمِنْهَا مَا يُحِبُّ , فَأَمَّا الَّتِي يُحِبُّ فَاخْتِيَالُ الرَّجُلِ عَلَى الْقِتَالِ وَاخْتِيَالُهُ عِنْدَ الصَّدَقَةِ , وَأَمَّا الَّتِي يَبْغَضُ اللَّهُ فَاخْتِيَالُهُ فِي الْبَغْيِ وَالْفَخْرِ " . وَفِي السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ قَتَادَةَ بْنِ النُّعْمَانِ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ , وَالْبَزَّارُ عَنْ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ رضي الله عنهم فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ قَالُوا: " عَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَيْفًا يَوْمَ أُحُدٍ فَبَسَطُوا أَيْدِيَهُمْ كُلُّ إنْسَانٍ يَقُولُ أَنَا , فَقَالَ: مَنْ يَأْخُذُهُ بِحَقِّهِ؟ فَأَحْجَمَ الْقَوْمُ , فَقَامَ رِجَالٌ فَأَمْسَكَهُ عَنْهُمْ " . وَعِنْدَ ابْنِ عُقْبَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا عَرَضَهُ طَلَبَهُ مِنْهُ عُمَرُ رضي الله عنه فَأَعْرَضَ عَنْهُ , ثُمَّ طَلَبَهُ الزُّبَيْرُ رضي الله عنه فَأَعْرَضَ عَنْهُ , فَوَجَدَا فِي أَنْفُسِهِمَا مِنْ ذَلِكَ . وَعِنْدَ إسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى الْمَازِنِيِّ أَنَّ الزُّبَيْرَ طَلَبَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ , كُلُّ ذَلِكَ يُعْرِضُ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم . وَفِي الطَّبَرَانِيِّ عَنْ قَتَادَةَ بْنِ النُّعْمَانِ أَنَّ عَلِيًّا رضي الله عنه قَامَ فَطَلَبَهُ , فَقَالَ لَهُ: اجْلِسْ , ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَنْ يَأْخُذُهُ بِحَقِّهِ؟ فَقَامَ إلَيْهِ أَبُو دُجَانَةَ بِضَمِّ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَبِالْجِيمِ وَالنُّونِ رضي الله عنه وَاسْمُهُ سِمَاكُ بْنُ خَرْشَةَ بِكَسْرِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ وَبِالْكَافِ وَفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ مِنْ خَرَشَةَ وَالرَّاءِ وَالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ أَخُو بَنِي سَاعِدَةَ , فَقَالَ: وَمَا حَقُّهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ أَنْ تَضْرِبَ بِهِ فِي الْعَدُوِّ حَتَّى يَنْحَنِيَ , قَالَ: أَنَا آخُذُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ بِحَقِّهِ , قَالَ لَعَلَّك إنْ أَعْطَيْتُكَهُ تُقَاتِلُ فِي الْكَيُّولِ , قَالَ لَا , قَالَ الشَّمْسُ الشَّامِيُّ: الْكَيُّولُ بِكَافٍ مَفْتُوحَةٍ فَمُثَنَّاةٍ تَحْتِيَّةٍ مَضْمُومَةٍ مُشَدَّدَةٍ وَتُخَفَّفُ فَوَاوٍ سَاكِنَةٍ فَلَامٍ: آخِرُ الْقَوْمِ أَوْ آخِرُ الصُّفُوفِ فِي الْحَرْبِ وَهُوَ فَيْعُولُ مِنْ كَالَ الزَّنْدَ يَكِيلُ كَيْلًا إذَا كَبَى أَيْ لَمْ يُخْرِجْ نَارًا , وَذَلِكَ لَا نَفْعَ فِيهِ , فَشَبَّهَ مُؤَخَّرَ الصُّفُوفِ بِهِ ; لِأَنَّ مَنْ كَانَ فِيهِ لَا يُقَاتِلُ وَقِيلَ: الْكَيُّولُ الْجَبَانُ انْتَهَى فَأَعْطَاهُ إيَّاهُ , وَكَانَ أَبُو دُجَانَةَ رَجُلًا شُجَاعًا يَخْتَالُ عِنْدَ الْحَرْبِ وَكَانَ لَهُ عِصَابَةٌ حَمْرَاءُ يُعْلَمُ بِهَا عِنْدَ الْحَرْبِ يَعْتَصِبُ بِهَا , فَإِذَا اعْتَصَبَ بِهَا عَلِمَ النَّاسُ أَنَّهُ سَيُقَاتِلُ , فَلَمَّا أَخَذَ السَّيْفَ مِنْ يَدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَخْرَجَ عِصَابَتَهُ تِلْكَ فَعَصَبَ بِهَا رَأْسَهُ , فَقَالَتْ الْأَنْصَارُ أَخْرَجَ أَبُو دُجَانَةَ عِصَابَةَ الْمَوْتِ , وَهَكَذَا كَانَتْ تَقُولُ إذَا اعْتَصَبَ بِهَا ثُمَّ جَعَلَ يَتَبَخْتَرُ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ , فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ رَآهُ يَتَبَخْتَرُ إنَّهَا لَمِشْيَةٌ يَبْغَضُهَا اللَّهُ إلَّا فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْطِنِ . قَالَ الزُّبَيْرُ: وَلَمَّا أَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم السَّيْفَ لِأَبِي دُجَانَةَ وَجَدْت فِي نَفْسِي حِينَ سَأَلْته فَمَنَعَنِي وَأَعْطَاهُ إيَّاهُ وَقُلْت: أَنَا ابْنُ صَفِيَّةَ عَمَّةِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ قُمْت إلَيْهِ وَسَأَلْته إيَّاهُ قَبْلَهُ فَأَعْطَاهُ إيَّاهُ وَتَرَكَنِي , لَأَنْظُرَنَّ مَا يَصْنَعُ بِهِ , فَأَتَّبِعُهُ فَخَرَجَ , وَهُوَ يَقُولُ: أَنَا الَّذِي عَاهَدَنِي خَلِيلِي وَنَحْنُ بِالسَّفْحِ لَدَى النَّخِيلِ أَنْ لَا أَقُومَ الدَّهْرَ فِي الْكَيُولِ أَضْرِبْ بِسَيْفِ اللَّهِ وَالرَّسُولِ الْقِصَّةَ وَمَحَلُّ الدَّلِيلِ تَبَخْتُرُ أَبِي دُجَانَةَ رضي الله عنه , وَقَوْلُ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم مَا قَالَ , وَذَلِكَ لِاسْتِهَانَتِهِ لِأَمْرِ الْمُشْرِكِينَ وَقِلَّةِ هَيْبَتِهِمْ عِنْدَهُ . فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ الْحَامِلِ لَهُ وَلِأَمْثَالِهِ عَلَى الْإِقْدَامِ وَالْجُرْأَةِ عَلَيْهِمْ وَالِاحْتِقَارِ لَهُمْ وَعَدَمِ الِاحْتِفَالِ بِشَأْنِهِمْ . وَأَمَّا اخْتِيَالُ الْإِنْسَانِ عِنْدَ الصَّدَقَةِ يَعْنِي عِنْدَ دَفْعِهِ لِلصَّدَقَةِ فَلِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى عُلُوِّ هِمَّتِهِ وَشَرَفِ نَفْسِهِ فَلَا يَسْتَكْثِرُ كَثِيرَهَا , وَإِنْ جَلَّ , وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ .
|